_ محمد طيفوري
صناعة الخدمات الاستشارية، وبخلاف الرائع، إحدى أعرق الصناعات في العالم، فأقدم شركة استشارات تأسست على يدي أرثر دي ليتل؛ الكيميائي بمعهد ماساتشوتس للتقنية، عام 1886، في مدينة بوسطن الأمريكية. وشاعت الفكرة، مطلع القرن 20، بعد ظهور شركة الاقتصادي إيدوين بوز، عام 1914، الذي طور نظرية توضح أن الشركات ستكون أكثر نجاحا متى استعانت بأجانب يزودونها بخبرات خارجية، ما شكل الانطلاقة الفعلية لمهنة الاستشارات.
في العقود الأربعة الأخيرة، وتحديدا عقب استعانة الحكومة البريطانية، خلال حكم رئاسة السيدة مارغريت ثاتشر، بشركات استشارية انطلق مجد صناعة لا تعرف الكساد؛ فقد قفزت قيمة عقودها من 6 مليون إلى 246مليون جنيه إسترليني. وارتفع الطلب على خدمات شركات الاستشارات الخاصة، بفضل تنامي قدرتها على جذب العملاء؛ في القطاعين العام والخاص على حد سواء، ما حوّلها إلى واحدة من أنجح الصناعات في العالم، فأرقام عام 2021 تتحدث عن سوق عالمية تتراوح ما بين 700 و900 مليار دولار، مع توقعات بمعدل نمو سنوي مركب في القطاع، يقدر بنسبة 4,21% خلال خمس سنوات (2023-2028).
تضطلع الصناعة الاستشارية اليوم بدور مركزي في الحياة الاقتصادية والسياسية، فشركات الاستشارية الكبرى حاضرة وبقوة في كافة الأصعدة ومختلف الجبهات؛ في الاقتصاد والتكنولوجيا والموارد البشرية والقضايا الإيكولوجيا والطاقة والتنمية والتعاون... حتى قيل بأن والتطور الاقتصادي صنوان لا يفترقان. لكن فضائح شركات توصف بعمالقة صناعة الاستشارة، في السنوات الأخيرة، سلط الأضواء مجددا على القطاع، لدرجة أن أصواتا ذهبت في نقدها بعيدا، حين اعتبرت "صناعة الاستشارات تقدم الوعود لعكس المشكلات ذاتها التي ساعدت هي في خلقها".
قبل عام، صدر كتاب "الخدعة الكبرى: كيف تضعف الصناعة الاستشارية الحكومات والشركات وتشوه الاقتصاد" (ماريانا مازوكاتو وروزي كولينجتون)، يحذر من عواقب الاستكانة المطلقة لهذه الصناعة التي تغلغلت في كافة القطاعات، ساردا قائمة من المشكلات المتعلقة بها، إضافة إلى الفضائح الأخلاقية والمهنية التي تنفجر بين الفينة والأخرى. وسبق لوزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان أن نبه إلى ذلك، مفضلا الاعتماد على الأطر والكفاءات المحلية، لأن الاستكانة المطلقة لهذه الشركات "يضعف قدرات الجهة التي تستعين بهم مع الوقت ويجردها من الذاكرة المؤسساتية".
شكلت تطورات الذكاء الاصطناعي بدورها تحديا آخر يتربص بمستقبل هذه الصناعة، فأغلب الشركات التي كانت تستعين باستشاريين، بدأت تفكر في اللجوء للذكاء الاصطناعي من أجل القيام بأدوار شركات الاستشارة. خاصة وأن الأرقام تفيد بأن هذا الذكاء قادر، وبنسبة تتراوح ما بين 60% إلى 70%، على تنفيذ أعمال من صميم مهام الاستشاريين الخارجين، بأسرع وقت وأقل تكلفة، وحتى أدق نتيجة دون أي تضارب للمصالح أو محاباة.
متغيرات يتوقع أن تفرض نفسها، وبقوة في القادم من السنوات، على سوق صناعة الاستشارات، فالطلب على الاستشارات قائم وفي ارتفاع، وما حجم تكلفة الاستشارات في الولايات المتحدة، برسم عام 2022، والتي بلغت 116 مليار دولار سوى دليلا على ذلك. مع توقعات بإعادة تشكيل هذه القطاع، بكسر هيمنة كبرى الشركات الأمريكية عليه؛ بتطبيقات الذكاء الاصطناعي أولا، وبالانحياز نحو الشركات المحلية والإقليمية. قول تعززه التقارير التي تفيد بأن سوق الاستشارات في المملكة العربية السعودية من ضمن الأسرع نموا في العالم.