هناك دائماً منعطف ما خلال عملية الكشف عن مجرم، تقفز فيه إلى السطح حقيقة شبه منسية، فتعقّد النظرية الآخذة في التطور. وهناك كذلك نمط مشابه قيد التطور للسردية السائدة حالياً بين المستثمرين عن اقتصاد الولايات المتحدة، مع وجود ظاهرة حظيت بكثير من الاهتمام في سوق السندات، وهي مُرشحة لأن تكون النقطة الحرجة.
إن الثقة تتنامى بهبوط سلس للاقتصاد الأمريكي، لكن ما زال الإنذار الكلاسيكي بوقوع ركود يومض باللون الأحمر في الأسواق، وهو ما يُطلق عليه انعكاس منحنى العائد، إذ عادة ما يكون العائد أعلى، كلما كان أجل استحقاق السند أطول، مع سعي المستثمرين للحصول على تعويض لقاء حيازتهم للدين لمدة أطول، ومع كل المخاطر التي ينطوي عليها هذا الأمر.
وحين ينعكس منحنى العائد، ترتفع عوائد السندات قصيرة الأجل، وتتخطى عوائد تلك الأطول أجلاً، لكن هذا الأمر يُعتبر نذيراً بأوقات اقتصادية عصيبة، لأنه يشير إلى توقعات بتخفيض أسعار الفائدة على المدى الأطول، تحفيزاً للنمو.
هل يفوّت المستثمرون شيئاً هنا، أم هي إشارة مضللة هذه المرة؟ هناك مشكلات قليلة في السوق، كان بإمكانها أن تكون مدعاة لاستخدام «مزيد من الخلايا الرمادية الصغيرة في الدماغ»، إذا ما أردنا استخدام الجملة المفضلة للمحقق هيركيول بوارو «في قصص آجاثا كريستي» أكثر من مناقشة أسباب تنبؤ منحنى العائد بفترات ركود، وما يشير إليه بالتحديد عندما يفعل ذلك.
وهناك مقاييس مختلفة للمنحنى، لكن أكثرها شهرة، هو الفرق بين عوائد السندات لأجل عامين و10 أعوام، والذي شهد انعكاساً منذ يوليو 2022. وعند أعمق نقاط الانعكاس في يوليو من العام الماضي، قدمت السندات لأجل 10 أعوام عائداً بلغ 3.9 %، مقابل تقديم السندات لأجل عامين نحو 5 %.
وقد انكمشت الفجوة هذا الأسبوع إلى مستوى منخفض، عند 0.15 نقطة مئوية، بيد أن المنحنى لا يزال منعكساً. وبغض الطرف عن المنحنى المحدد الذي يتم قياسه، فقد دام الانعكاس الحالي طيلة 19 شهراً، ويظل منعكساً حتى الآن، وهي أطول مدة منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
ويتوقف السبب وراء انعكاس منحنى العائد، وإشارته للركود من عدمه، على من تسأله. فقد كان الانعكاس إشارة تسبق كل ركود في الأعوام الـ 60 الماضية، لكنه بعث بإشارة مضللة لمرة واحدة فقط في عام 1965، وفقاً لورقة نشرها خبراء الاقتصاد لدى الاحتياطي الفيدرالي لشيكاغو في 2018.
الأمر إذن واضح حتى الآن، لكن فريق الاحتياطي الفيدرالي وصل إلى اللغز الأكبر، إذ أضاف: «في حين وجدت الأدبيات محتوى تنبؤياً، فإنه كان أقل نجاحاً في بيان سبب بقاء هذا الارتباط التجريبي».
ويعتبر البعض انعكاس المنحنى آلية بسيطة للإشارة إلى توقعات السوق، لكن بالنسبة لآخرين، فالانعكاس يعقّد من المشكلة ذاتها. ويقول جيم ريد، الخبير الاستراتيجي للبحوث لدى «دويتشه بنك»: «يدعم منحنى العائد الإيجابي المتصاعد، حالة الحماس والاندفاع والإقراض، وكافة الأشياء التي عادة ما تكون إيجابية للنمو».
ويرى ريد أن المصارف تميل إلى تشديد معايير الإقراض، عندما تنعكس منحنيات العوائد، ويمكن للمستثمرين أن يكونوا أكثر تبنياً للموقف الدفاعي، فيتجهون صوب العوائد الأعلى، من خلال السندات قصيرة الأجل، عوضاً عن تكبّد رهان على المدى الأطول.
والأمر الوحيد الذي ينطبق على كل انعكاس لمنحنى العائد، هو النقاش حول ما إذا كانت هذه المرة مختلفة. وفي عام 2000، كان من الجنون التفكير في ركود اقتصادي، بينما تحقق أسهم شركات التكنولوجيا الجديدة مكاسب جمة.
وعندما انعكس المنحنى في 2006، نُظِر إلى أنماط شراء سندات الخزانة العالمية باعتبارها السبب الفني، في ضوء إعادة الصين تدوير دولارات صادراتها إلى الديون الأمريكية. لم يَبدُ هذا وأن له صلة كبيرة بأي ركود وشيك، لكن إبقاء العائدات منخفضة، أسهم في تحفيز الإقراض المتهور، وهو ما أسفر عن الأزمة المالية في 2008.
ويعد إنفاق واشنطن إبان الجائحة، هو المُرشح هذه المرة لأن يُلقى عليه باللوم، لتشويهه السلوك الاقتصادي والاستثماري، الذي كان بإمكانه زعزعة، أو على الأقل، إرجاء القوة التنبؤية لمنحنى العائد. وفي ضوء قوة إنفاق المستهلكين، أنى للركود أن يلوح في الأفق؟ في الواقع، عادة ما يكون هناك فارق زمني بين الانعكاس والركود الاقتصادي.
ويشير الخبراء الاستراتيجيون لدى «جيه بي مورغان»، إلى أن خطر الركود يكون في أوجه خلال فترة تتراوح بين 14 و24 شهراً بعد الانعكاس، وذلك وفقاً للوقائع السابقة. وتغطي هذه المدة النصف الأول من 2024 على الأقل.
ويلفت بريت نيلسون، من مجموعة استراتيجية الاستثمار لدى «غولدمان ساكس»، إلى أن: «أمد انعكاس منحنى العائد يكون مهماً أيضاً، لأن الانعكاسات الطويلة أكثر أهمية من تلك الأقصر أمداً». لكن يُشار إلى خفض فريق مجموعة استراتيجية الاستثمار لدى «غولدمان ساكس»، احتمالية وقوع ركود هذا العام إلى 30%، من نسبة تراوحت بين 45 % و55 % في 2023.
إن المحققين الخياليين يأتون بحلول واضحة وصائبة للألغاز التي يواجهونها، لكن الأمر مختلف على صعيد الاقتصادات والأسواق المالية. وربما يكون السبيل إلى حل شيفرة انعكاس منحنى العائد، متمثلاً في تذكّر أن الهبوط السلس لا يحول بالضرورة دون ركود طفيف.
وتشي توقعات المستثمرين بتخفيضات للفائدة لما يزيد على خمس مرات، قدر كل واحدة منها ربع نقطة مئوية، ضمناً، بشيء قد يكون أكثر إيلاماً، وإلا، فلِمَ يخفض الفيدرالي الفائدة بهذه السرعة، دون الحاجة لإنقاذ اقتصاد آخذ في ضعف سريع؟ إن التباطؤ التدريجي بالتأكيد أمر أكثر بساطة، لكنه لا يقف في كل الأحوال وراء كافة الوقائع.
_ جينيفر هيوز